فصل: بحث نفيس آخر في التكفير والنفاق ومذاهب العلماء فيهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الرابع عشر: الغلط لا يعرض مرتكبه إلى التكفير:

من الناس من قال إنما أكفّر من يكفّرني من الفرق. ومن لا يكفّرني فلا.
وهذا لا مأخذ له: فإن قال قائل: علي رضي الله عنه أولى بالإمامة، إذا لم يكن كفرٌ فبأن يخطئ صاحبُهُ ويَظُنَّ أن المخالف فيه كافر، لا يصير كافرا، وإنما هو خطأ في مسألة شرعية- وكذلك الحنبليّ إذا لم يكفر بإثبات الجهة، فلم يكفر بأن يغلط أو يظن أن نافي الجهة مكذِّبٌ وليس بمتأول.
وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قذف أحد المسلمين صاحبة بالكفر فقد باء به أحدهما»، معناه أن يكفّره مع معرفته بحاله. فمن عرف مَنْ غيرَهُ أنه مصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يكفّره فيكون المكفِّرُ كافرًا.
فأما إن كفّره لظنه أنه كذب الرسول فهذا غلَطٌ منه في حال شخص واحد. إذ قد يظن به أنه كافر مكذب وليس كذلك، وهذا لا يكون كفرًا.
فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيهَ على أعظم الغَورِ في هذه القاعدة، وعلى القانون الذي أن يُتَّبَع فيه، فاقنع به، والسلام. اهـ.

.تعليق:

إنما طولنا النفس في هذا الأمر لخطورته وأهميته، فقد كان سببا في فرقة المسلمين وضعفهم، وعلى كل طالب للحق أن ينظر بعين بصيرته ليفرق بين الحق والباطل- والأصل براءة الذمة- والله يقول ولكن ما تعمدت قلوبكم وفى صحيح السنة إنما الأعمال بالنيات وهذا أصل عظيم فيجب أن نحسن الظن بالمسلمين، أما تبنى تكفير المخالف فهو مذهب الخوارج في كل عصر، وقد تقدمت أحاديث سيد المتقين وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن وكلام المحقين من العلماء المحققين ومنهم الإمام المفترى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- والذى صوره بعض من يدعى الانتساب إلى السلف- والسلف منه براء- وكفر كل من خالفه موهما أن هذا رأى شيخ الإسلام وحاش لله أن يكون مذهب السلف يقول بتكفير المخالف، ولكن مذهبهم يقوم على التسامح وحسن الظن بالمسلمين وأن رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب، وفى الحقيقة لقد أساء كثير من هؤلاء إلى الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم وإلى مذهب السلف عموما، واقرأ إن شئت كتب الإمامين المحققة اليوم لتقف على هذه الحقيقة المرة والمؤلمة وترى ما وضع فيها من فساد وإفساد يخالف منهج الإمامين- رحمهما الله- بل إن بعض الصبية في العقل ممن يدعون التحقيق يعتب على الإمام ابن القيم في مدارج السالكين لأنه لم يكفر الشيخ الهروى- سبحانك هذا بهتان عظيم- وهذه جرأة على العلماء ولحوم العلماء مسمومة وأهل لا إله إلا الله لهم حرمة يجب أن تصان وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وتأمل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} هل يفهم من هذه الآية وجود إله آخر لكن لا برهان عليه؟
الجواب: كلا وألف كلا؛ لأن مجرد تصور الإله الآخر مستحيل فإذا استحال تصوره استحال وجوده من باب أولى وهذا من أعلى درجات نفى الشريك تعالى الله علوا كبيرا {ولم يكن له شريك في الملك}.
وتأمل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}.
هل يفهم من قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أن المسيح عليه السلام جزء من الله؟
حاش الله، إن هذا الفهم الفاسد تطرق إلى نفس أحد أطباء النصارى عند ما ناظر الإمام الواقدى- رحمه الله- فقد حمل حرف الجر {من} على التبعيض وهذا عين ما يقوله النصارى ولم يدر أن حرف الجر {من} له أكثر من معنى وأن هذا المعنى الفاسد غير مراد في الآية؛ لأن {من} في الآية الكريمة لابتداء الغاية وليست للتبعيض، فقال له الإمام الواقدى- رحمه الله- لو كان المسيح جزء من الله لقوله: {وروح منه} لكانت السماوات والأرض جزء من الله لأن الله تعالى قال: {وسخر لكم ما في السماوات والأرض جميعا منه} فبهت الذي كفر.
وتأمل في قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} مع قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} فالفعل تارة ينسب إلى الله باعتبار الحقيقة والتأثير وتارة ينسب إلى العبد باعتبار مباشرة الفعل ويكفى في الإضافة أدنى ملابسة.
وتأمل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} مع قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} فهل المعنى واحد؟
الجواب: كلا كما قلنا يكفى في الإضافة أدنى ملابسة وشتان بين نسبة الفعل إلى الرب الخالق القادر المؤثر الحقيقى في الأشياء وبين نسبته إلى العبد المخلوق الضعيف الذي كان سببا في الحياة في قوله تعالى: {ومن أحياها}.
ومن المعلوم أن لنا حياة ولله حياة ولنا قدرة واستطاعة وإرادة وعلم وسمع وبصر ومشيئة وكل ذلك ثابت في القرآن لكن شتان بين صفات العبد وصفات الرب {ليس كمثله شيء}.
وتأمل في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وتأمل في قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}.
فالخلق له معنيان الأول بمعنى التقدير وهذا أعطاه الله تعالى لبعض خلقه كعيسى عليه السلام {أنى أخلق لكم من الطين} أى أقدر ومع ذلك فهو كما أخبر في الآية: {بإذن الله}.
وأما المعنى الثانى للخلق فهو بمعنى الإيجاد من عدم وهذا مختص بالله تعالى لا يتعداه إلى غيره.
أما قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} فهو من المعنى الأول {التقدير} لأن الكاذب يقدر الكلام في ذهنه قبل أن يتكلم به.
وتأمل في قوله تعالى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فهل إيتاء الرسول كإيتاء الله تعالى؟
الجواب: كلا.
وتأمل في قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} مع قوله تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} فهل المعنى واحد؟
الجواب كما هو معلوم: كلا.
وتأمل في قوله تعالى: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} فهل الإنعام في المقامين واحد؟
الجواب: كلا، بل المراد كما قال بعض المفسرين أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق.
وتأمل في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} فهل من هنا للتبعيض يعنى اجتنبوا الرجس من بعض الأوثان دون البعض؟
الجواب: كلا.
وتأمل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فهل صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين؟
الجواب: كلا.
وتأمل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}.
وتأمل في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} هل الكتاب {القرآن} أنزل إلينا أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يكفى في الإضافة أدنى ملابسة.
وتأمل في قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} هل يفهم من الآية وجود شيء فِي السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ لا يعلمه الله؟
الجواب: كلا، والآية كما قال المفسرون ومنهم القرطبي وهذه عبارته الله لا يعلم أن له شريكا إذ لو كان لعلمه فلما لم يعلمه دل على عدمه {الشريك} وهذا كما قلنا في قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به}.
فهذا من أعلى درجات نفى الشريك فحاكم أى بلد قد يقول هذه العبارة: أنا لا أعلم أن للبلدة حاكما غيرى مبالغة في النفى.
وتأمل في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فهل يفهم من ذلك عبادة الشمس؟؟!!!
المراد هو معرفة وقت صلاة الظهر.
وتأمل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أثبت الله لنا إرادة.
وتأمل في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وهنا أثبت لنا مشيئة لكن إرادتنا ومشيئتنا وقدرتنا مقيدة.
وتأمل في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}.
وتأمل في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}.
وتأمل في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فهل المعانى في الآيات واحدة؟
الجواب: كلا.
وتأمل في قوله تعالى: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم قال: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}.
يكفى في الإضافة أدنى ملابسة.
وتأمل في قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}.
وتأمل في قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.
وتأمل في قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ}.
الخلاصة الفعل قد ينسب إلى الله تعالى باعتبار وقد ينسب إلى العبد باعتبار آخر.
ومن الأحاديث النبوية:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة».
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.
وأنشد أحد العلماء:
يا من يرانى ولا أراه ** كم ذا أراه ولا يرانى

فقال له تلميذه: كيف تزعم أنك تراه ولا يراك؟؟!!! فقال:
يا من يرانى ولا أراه ** كم ذا أراه ولا يرانى

كم ذا أراه منعما ** ولا يرانى لائذا

ومن المعلوم في قواعد العربية أن رأى تأتى بصرية بمعنى شاهد، وتأتى علمية قلبية بصيرية بمعنى علم {تنصب مفعولين} وشتان بين المعنيين.
من هنا لا نستطيع أن نكفر من استخدم ألفاظا وكلمات استخدمها القرآن واستخدمها رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وهى تحمل وجوها متعددة من المعانى في لغتنا العربية.
ومن أراد مزيد بيان في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب إيثار الحق على الخلق لابن الوزير والله أعلم. اهـ.
أسأل الله أن يجمع كلمة الأمة وأن يوحد صفها ويجمع شتاتها وأن ينصرها على عدوه وعدوها إنه نعم المولى ونعم النصير.

.بحث نفيس آخر في التكفير والنفاق ومذاهب العلماء فيهما:

للدكتور: عبد الله قادري الأهدل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

.تمهيد: مخاطر الكفر:

إن أمر التكفير خطير، كما أن التساهل الذي يؤدي إلى عدم تكفير الكافر خطير كذلك.
والواجب الوقوف عند نصوص الشريعة وقواعدها، دون إفراط أو تفريط، والحكم في ذلك لله وليس لغيره، والمرجع في تكفير الشخص المعين هم لعلماء الذين تفقهوا في دين الله، وتمكنوا من معرفة نصوص القرآن والسنة وفقهوا معانيهما، وتبينوا من واقع الأشخاص الذين يراد الحكم عليهم وظروفهم، ثم التحقق من صحة تنزيل الحكم على كل شخص بعينه.
ولا يجوز أن يترك الحكم بتكفير المسلم لمن يدعي العلم وهو منه خلي، ممن لم يتفقهوا على أيدي العلماء الذين أخذوا العلم عن أهله في الكتاب والسنة، وما يخدمهما من علوم الآلة، كأصول الحديث، وعلوم التفسير، وقواعد اللغة العربية، وقواعد الضرورات... وأقوال أهل العلم وأوجه استدلالاتهم من مصادرها الأصلية.
فقد سلط كثير من هؤلاء ألسنتهم الحداد على المسلمين بالتكفير، على جهل بقواعد التكفير التي بينها علماء المسلمين.
وإن الواجب على علماء المسلمين أن يَقفوا أمثال هؤلاء عند حدهم، ويبينوا للمسلمين خطرهم ولا يجوز سكوتهم عنهم، لأن ذلك يجرئهم على الاستمرار في السباحة في هذا البحر المتلاطم الأمواج الذي لا يجيد السباحة فيه إلا أهله.
وقوع التكفير قديما وحدبثا.
بعض المهتمين بالدعوة إلى الإسلام، ممن لم يتعمقوا في العلوم الإسلامية، وبخاصة العقائد التي تخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي مضى عليها أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
بعض هؤلاء ينكرون على من يتعرض لتلك العقائد ويبين فسادها، زاعمين أنها قد ماتت واندثرت مع الفرق التي كانت تعتقدها وتدعو إليها، وألا فائدة في الاشتغال بها وإحيائها، وأن الواجب الاشتغال بما يفيد المسلمين مما هو واقع، من الأفكار والمذاهب المعاصرة، والشئون السياسية والاقتصادية والإعلامية.
ولقد حصل حوار طويل بيني وبين قائد من قادة الجماعات الإسلامية في موضوع من هذه الموضوعات، فقال لي: إنكم تريدون نبش الموتى من قبورهم، هذه أمور عفا عليها الزمن، ولم تعد توجد إلا في صفحات الكتب الصفراء!
ونحن نوافقهم- في الجملة- على أن غالب تلك الفرق لم يعد موجودا باسم الفرقة، كالمعتزلة والخوارج والمرجئة والقدرية.
ولكنا على يقين من أن غالب تلك العقائد لا زالت موجودة في صفوف المسلمين من أفراد وجماعات، ولا أظن أن عصرا من العصور خلا من ذلك.
نعم قد تقل تلك العقائد أو بعضها في بلد وتكثر في آخر، وتقل في زمن وتكثر في آخر، ولكنها لا تندثر اندثارا كاملا.
ولسنا نريد إطالة الكلام في سرد جميع تلك العقائد وإقامة البرهان من الواقع على وجودها، وإنما نقتصر على ما نحن بصدده هنا، وهو وجود من يغلو في التكفير بالمعاصي.
وكذلك وجود ما يترتب على هذا الغلو، من معاملة من يُكَفرونه من الحكم عليه بالردة وما يترتب على ذلك من أحكام المرتد، كعدم استحقاق أقاربه إرثه، وعدم استحقاقه إرث أقاربه، وعدم تطبيق أحكام الجنازة عليه، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
والغالب أن الأشخاص أو الجماعة الذين يتصفون بهذا الغلو، يستحلون قتل من يحكمون عليه بالردة بأنفسهم، فيَعْتَدون مرتين:
المرة الأولى: الغلو في التكفير وإخراج كثير من المسلمين من ملة الإسلام بدون برهان.
والمرة الثانية: إعطاء أنفسهم حق تنفيذ العقوبات الذي هو حق للجماعة التي ينوب عنها في تنفيذه ولي الأمر، ويكون من آثار ذلك إهدار ضرورات الحياة التي من أعظمها حفظ النفس، وانتشار الفوضى في الأرض، وفقد المسلمين أمنهم في ديارهم، كما هو واقع مشاهد اليوم.
وقد تشعبت آراء الطوائف في هذا الباب:
فمنهم من أفرط، ومنهم من فرَّط، ومنهم من اعتدل.
والمقصود هنا ذكر هذه الآراء باختصار، ليتضح حكم مرتكب الذنب على اختلاف أنواعه عند كل طائفة.
وسنبين في هذا البحث ثلاثة مذاهب لثلاث طوائف: